ساعة الصفر التونسية
من الصعب إبعاد الحدث التونسي ليل أمس، من مآلات الربيع ككل، ذاك أن هزيمة المنطق الدستوري والانتخابي السائد بعد ثورة عام 2011، سترتد على جميع دول المنطقة بلا استثناء. في حزمة قرارات واحدة، أطاح الرئيس التونسي قيس سعيد، بالحكومة وجمّد عمل البرلمان (مجلس الشعب) ورفع الحصانة عن نوابه، وتولى النيابة العامة والسلطة التنفيذية، مستعيناً بالمادة 80 من دستور البلاد. عملياً، صار الرجل ممثلاً للسلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية بضربة قلم واحدة.
في مقابل القرار، اتهم راشد الغنوشي، زعيم حركة “النهضة” ورئيس البرلمان التونسي، الرئيس قيس “بالانقلاب على الثورة والدستور”، واعتبر أن “المؤسسات ما زالت قائمة وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون عن الثورة”.
اللافت هنا أن الرئيس التونسي اتخذ قراراته ومنها إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، خلال اجتماع مع قيادات عسكرية، ولوح بقرارات أخرى حتى يعود السلم الاجتماعي للبلاد. والاجتماع تلا تظاهرات شعبية ضد الحكومة وفشلها في إدارة الاقتصاد والوضع الصحي في ظل تفاقم جائحة كورونا بالبلاد وسط ضعف في تأمين اللقاحات.
وجود القيادات العسكرية لافت لسببين. الأول هو أن الاجتماع يأتي بعد 3 شهور من انفجار الجدل على الساحة التونسية بين الرئيس سعيد من جهة، ورئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي، من جهة ثانية. كان سعيد أكد في نيسان (أبريل) الماضي وكرر مرات بعدها، أن صلاحياته تشمل قيادة القوات المسلحة ومن ضمنها الجيش والشرطة والجمارك والدرك. حينها، رد المشيشي باعتبار كلام سعيد “قراءة فردية وشاذة” للدستور، محيلاً النزاع الى المحكمة الدستورية التي تملك وحدها صلاحية النظر في القضية.
الغنوشي حذر وقتها في بيان من نزوع قيس سعيد “نحو الحكم الفردي”، ومن “إقحام الأمن في الصراعات السياسية”، إذ يُمثل ذلك “تهديداً للديمقراطية والسلم الأهلي”. اتضح حينها لخصوم سعيد، أن الرئيس سيلجأ للجيش وقوى الأمن من أجل فرض إرادته السياسية، من فوق المؤسسات الدستورية. وخطوات ليل أمس أكدت المتوقع فحسب.
السبب الثاني هو أن كلمة الرئيس التونسي ليل أمس شملت تهديداً لخصومه في حال رفضهم قراراته واجراءاته. بعد اتخاذ قراره المثير للجدل والمرفوض من معارضيه، أمر سعيد الجيش “بالرد الفوري بوابل من الرصاص على من يطلق رصاصة واحدة ومن يحاول نشر الفوضي وجر البلاد للإنفلات الأمني، والمواجهة بكل حزم”.
مثل هذه التوجيهات تقطع الطريق أمام أي محاولة لانقسام الدولة بعد قرار الرئيس تولي كل مقاليد السلطة بالبلاد. وبما أن الغنوشي قرر المواجهة في الشارع، سيكون في مواجهة الجيش والقوى الأمنية (رغم أن الأخيرة موقفها ملتبس، إذ أشاد بيان “النهضة” بدور الشرطة في حماية مراكزه من اعتداءات المتظاهرين). في حال نجاح الرئيس، سيكون على النهضة ورموزها من الآن فصاعداً مواجهة سيل من المحاكمات والملاحقات الأمنية، علاوة على الفضائح الإعلامية المترافقة معها. ولن يكون أمامها من خيار سوى اللجوء الى الاحتجاج في الشارع، رغم أن لذلك صعوباته حالياً.
ذاك أن سجل “النهضة” في إدارة البلاد ومشاركتها في الحكومات المتعاقبة، لن يُساعدها على إدارة هذه المعركة في وجه قيس سعيد الذي يملك الشعبية بصفته وجهاً جديداً في السياسة التونسية. على مدى السنوات الماضية، فشلت “النهضة” وشركاؤها في انتشال الاقتصاد التونسي، وعدم اعترافها بالتقصير واحالتها الأزمة لأدوار خارجية ونزعة تسلطية لدى قيس سعيد، غير مقنعة وليست كافية.
تونس أمست عالقة بين رئيس شعبوي تسلطي، من جهة، وبين عقم “النهضة” وحلفائها حيال انتاج حلول مرضية لأزمات الناس. وبين هذين الفكين، يلفظ ما تبقى من الربيع العربي أنفاسه الأخيرة.
وكالات