الجوع في سجون لبنان يهدد بتأسيس “جيل حاقد”
بشير مصطفى
تسلل الجوع إلى سجون لبنان، فسرى الخوف إلى قلوب آلاف العائلات على امتداد الجغرافيا اللبنانية. ففي الأيام القليلة الماضية، تزايدت النداءات لإغاثة السجناء من موت محتم، موت بطيء قد يكون أشد وطأة من عقوبة الإعدام التي تقرها بعض القوانين الجزائية، وتمنع تطبيقها التوازنات الواقعية. وأعاد مشهد الجوع داخل السجون طرح إشكالية أساسية، فمن ناحية يتأثر هذا الوضع بالقدرات المالية للدول، ولكن من ناحية أخرى يستخدم في كثير من الأحيان كعقوبة، حيث يندرج ضمن الإجراءات التي تتخذها إدارات السجون في الأنظمة القمعية لتحطيم إرادة السجناء.
في لبنان، يرجح بشكل كبير أن يكون النقص في الغذاء ناجماً عن انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، الذي بلغ سعر صرفه 23 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد. من جهة أخرى، شكلت صرخات الجوع فرصةً لأنصار “العفو العام” من أجل إعادة إحياء مطلبهم الدائم، انطلاقاً من الخطر الكبير الذي تتعرض له حياة المساجين بفعل نقص الموارد وعدم توافر الأموال الكافية لتأمين تغذية صحية وسليمة لهم. وفي هذا الإطار، حصلت “اندبندنت عربية” على صورة من داخل أحد السجون لصندوق يحوي وجبتي الفطور والعشاء لـ580 سجيناً، وتظهر الصورة طعاماً موضباً داخل أكياس نايلون. كما صدرت شكاوى عن “مياه موحلة” غير صالحة للاستعمال داخل السجون.
وجبات الحلاوة والمربى
النقاشات حول نوعية الطعام في السجون اللبنانية ليست بجديدة، فهي ترتبط بصورة أساسية بالقدرات المالية للدولة. ومع الشح الكبير في الموازنة، يبدأ التخفيض في الحصص الغذائية واعتماد “الصيغ الخفيفة” قليلة الدهون والشحوم. ويتأثر بهذا الواقع السيئ، السجناء والقوى الأمنية، فكلاهما يفتقد اللحم في الوجبات. ويقول محمد وهو نزيل سابق في سجن رومية (أكبر سجون لبنان)، “قضيت أربعة أشهر هناك على المربى والحلاوة. فالأطباق التي يتم تقديمها في السجن يغلب عليها الأرز، والمجدرة”. ويؤكد أن المعاناة لا تقتصر على السجناء، وإنما يتشارك بها هؤلاء مع القوى المكلفة حماية السجناء، والتي تحصل على وجبات مشابهة.
يجزم محمد بأن الأوضاع داخل السجن مذرية، ولذلك هناك خوف من انتفاضة للسجناء، فهم تقبلوا في السابق الازدحام والنقص في الخدمات الأساسية، لكنهم لن يصمدوا أمام الجوع. ويحاول السجناء التعويض عن الصعوبات داخل السجن، من خلال الإعانة التي يحضرها أهاليهم. ويشير محمد إلى أن هناك ما يشبه الشراكة داخل السجن، بحيث يتقاسمون الوجبات التي يؤمن ثمنها الأهالي.
الجوع ليس بجديد
وشكل الحديث عن جوع داخل السجون اللبنانية صدمة للبعض، إلا أنه أمر متوقع بالنسبة لآخرين، لا بل هو حقيقة واقعية ليست بجديدة. وأكد مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس، المحامي محمد صبلوح أن “الغلاء الذي نعيشه حالياً له ارتدادات على السجون والسجناء”، لافتاً إلى أن “حانوت السجن (الكافيتريا) شهدت ارتفاعات جنونية للأسعار، ولم يعد بمقدور السجناء أو الأهالي شراء السلع من داخلها لأن أسعارها مضاعفة”. ونقل صبلوح المطلع عن كثب على ملف السجون، أنه “في السابق كان يمتنع السجناء عن تناول وجبات السجن، ولكنهم الآن مرغمون على تناولها، وتم تخفيف كمية الوجبات بسبب عدم القدرة على تغطية الكمية الهائلة للسجناء. وعلى سبيل المثال، كانت إدارة السجن تدخل أوقية لبنة للسجين في اليوم، وانخفضت الكمية إلى 70 غراماً لثلاث مرات في الأسبوع”.
وأشار صبلوح إلى محاولات جدية تقوم بها وزيرة الدفاع زينة عكر لتأمين الغذاء للسجناء، والحيلولة دون الوقوع في المحظور والمجاعة، إلا أن هذه الإجراءات لم تصل إلى مرحلة علاج الواقع الصعب الذي يعيشه السجناء.
ودعا مدير “مركز حقوق السجين” الجمعيات الإغاثية إلى مضاعفة جهودها الرعائية والإنسانية، لافتاً إلى اجتماعات تعقد مع لجنة متابعة ملف كورونا في وزارة الداخلية من أجل تسهيل دخول الطعام إلى السجون، والتخفيف من إجراءات تقديم طلبات المساهمة في سد النقص. ويضع صبلوح المشكلة في إطارها الإنساني، “حيث يجب أن تجتمع الجهود للحد من تقصير الدولة”.
السجون بلا كهرباء
على غرار باقي المناطق اللبنانية، لا تنعم السجون بالتغذية بالتيار الكهربائي، حيث تقطع خلال النهار، من أجل تأمين الإنارة ليلاً فقط، من أجل استدراك فقدان مادة المازوت.
ولفت المحامي صبلوح إلى أثر انقطاع الكهرباء على صحة السجناء في غرف الاحتجاز المكتظة خلال أشهر فصل الصيف، معطياً سجن رومية كمثال حي فهو مصمم ليسع 1500 سجين، لكنه في الواقع يضم حالياً نحو 3600 سجين.
وعليه، يمكن تخيل المشهد، في سجن مكتظ خالٍ من المكيفات، ويعتمد على المراوح للتهوية، لتزداد الصورة قتامة مع انقطاع الكهرباء، لذلك شدد صبلوح أن “الأزمة لا تقتصر على النقص في الطعام، وإنما تتجاوزها إلى غياب كل مظاهر الحياة من كهرباء وماء، وعدم القدرة على الاستحمام والمحافظة على النظافة الشخصية ذات الآثار الصحية الكبيرة”.
وطالب صبلوح الحكومة المستقيلة مجتمعةً بالتحرك من أجل حل هذه المشكلة الإنسانية المتعاظمة، لأن أعباء إدارة السجون تشكل جهداً مشتركاً بين وزارات العدل والداخلية والصحة المكلفة الرقابة الصحية، ووزارة الشؤون الاجتماعية، مؤكداً أن “ما يحصل اليوم هو وليد سنوات من التقصير”.
جمعيات تتحرك للمساعدة
في موازاة ذلك، أدرك المجتمع المدني حجم المشكلة في السجون، لذلك تحركت الجمعيات منذ سنوات للتخفيف منها على الصعد الإنسانية، التنموية، الثقافية، والعلاج النفسي. وفي ظل أزمة توريد الطعام، تحركت الجمعيات الإغاثية التي تشرف عليها “دار الفتوى” في الجمهورية اللبنانية، حيث قدمت مساعدات عينية. وتفيد أوساط متابعة للملف بأنه تم حالياً تقديم الموجة الثانية من المساعدات، بعد أن كانت قد بدأت في رمضان الماضي. وتتضمن المساعدات الأرز، والسكر، البطاطا، والبصل، بالإضافة إلى بعض المواد الأولية والمعكرونة. وتأمنت تلك المساعدات من خلال تبرعات فردية بإشراف هيئة رعاية السجناء في دار الفتوى. ووفق الإجراءات الروتينية، يتم إدخال المساعدات إلى داخل السجون، وبعد تفتيشها، يتسلمها شاويش السجن، ولجنة السجناء التي تشرف على توزيعها وفق عدد النزلاء في الأجنحة.
العفو العام
من جهة أخرى، أعادت مشكلة السجون طرح ملف العفو العام على الطاولة من جديد من بوابة طلب الأهالي حل جذري لمشكلة أبنائهم. وحتى الساعة، لا تبدو أن العقبات أمام هذا الملف قد تم تذليلها، فمن أجل إقراره لا بد من أن يصدر بقانون عن مجلس النواب، ويفترض ذلك تأمين توافق سياسي بين الأطراف السياسية المختلفة. وبما أن التنظيمات السياسية في لبنان ذات صبغة طائفية وسياسية، يتطلب هذا الأمر غطاءً مذهبياً ومناطقياً، بالتالي أن يتضمن توازناً لأسباب انتخابية بين ملف الموقوفين الإسلاميين من جهة، وملف المطلوبين للاتجار بالمخدرات من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد، ذكّر المحامي محمد صبلوح بموقفه الداعي إلى “محاكمات عادلة واتخاذ إجراءات على غرار خفض السنة السجنية لتخفيف الاكتظاظ”، معلناً تحفظه على العفو العام “الذي لا ينصف المظلوم، ويأتي وفق توازنات سياسية تساوي بين المجرم والبريء”. ودعا إلى “استيقاظ ضمائر المسؤولين قبل فوات الأوان، وتأسيس جيل حاقد”.
في سياق متصل، اعتبر رئيس “لجنة متابعة السجناء”، نبيل رحيم، أن “المشاكل في سجن رومية متأصلة من زمن بعيد”، مطالباً بإقرار العفو العام لأن “هناك ملفات تم تضخيمها، واعترافات انتزعت تحت التعذيب الجسدي والنفسي، حيث ترك أشخاص بلا نوم لثلاثة أيام من أجل انتزاع اعتراف، بالإضافة إلى الأعباء العلاجية التي يتحملها السجناء على عاتقهم، ومشكلة الطعام المستجدة”.
ورأى رحيم أن “السجناء في رومية هم الحلقة الأضعف، ويدفعون أثماناً لأسباب سياسية، ولانتماءات مناطقية”. ولفت إلى أن “العفو العام مدخل أساسي لحل مشكلة اكتظاظ السجون”، منتقداً “فلسفة السجون في لبنان بسبب غياب الإجراءات التأهيلية للسجناء، بحيث تشكل بيئة لإفساد الشباب”. ودعا رحيم إلى إعادة السجناء إلى عوائلهم لأنه “مهما قامت الجمعيات بتقديم المساعدات العينية والمالية التي قد تصل إلى 3 ملايين ليرة في الحالات القصوى، لن تتمكن من الحلول مكان المعيل، وإنما هدفها هو التخفيف عن عائلات السجناء”.
في المحصّلة، تشكل مأساة السجون قطعة من المشهد العام في لبنان، حيث تزداد معاناة المواطنين التي قاربت حد “الجوع”. وأمام هذا الواقع، تظهر أهمية المبادرات الفردية والجهود الإغاثية الدولية لاستدراك المجاعة التي تطرق الأبواب، وربما لن تشفع فيها بطاقة تمويلية أو أي إجراءات موضعية أخرى.