باريس تفتح الحرب على بكركي؟
من يشاهد مقدّمات نشرات الأخبار التلفزيونية، يكتشف مدى وعمق الإنقسام اللبناني. فمحطات الممانعة “مركّزة” عالقدس، فجمهورها “مقاوم للجوع”، أمّا المحطة البرتقالية، فعلى كوكب آخر “مُعلّق ديسكها” على لبننة الحكومة والإحتكام إلى الدستور، بينما متابعوه: “لعيون الرئيس كل شي بهون حتى الجوع”، فيما أل “ال. بي. سي” “المحيّرة” هذه الأيام، فغارقة في منصّات الدولار والسلع، تتقاسم مشاهديها الجائعين مع الـ “أم. تي. في “، المركّزة على “حزب الله” وخريطة منصّات صواريخه. إنها أفضل صورة لبلد يعيش برج بابل سياسي، حيث كلّ يغني على ليلاه، وعلى ليلاه شعوبه تغني.
وبنفس نسب الفوارق تلك، تختلف أسباب فشل المبادرة الفرنسية، التي وُلدت ميتة لألف سبب وسبب، حيث تروي مصادر الإيليزيه أن زيارة وزيرة خارجيته إلى بيروت ،كانت واضحة المهمّة، وهي إفهام الطبقة السياسية الحاكمة، بأن باريس قررت “الإنتقام” على طريقتها من تفشيل مساعيها وإجهاض مبادراتها، وباشرت بذلك فعلاً وفقاً لخطة تصاعدية، قد تصل إلى حدود دعوة مجموعات الحراك لعقد مؤتمر عام في فرنسا لتوحيد جهودها، وفتح باب المؤسسات الأوروبية أمامها، متعلّمة من الأخطاء التي ارتكبتها والرهانات الغير الصائبة طوال تسعة أشهر.
وعليه، تُبيّن القراءة الهادئة والتقييم الموضوعي لنتائج زيارة لودريان، وجود تحولات جذرية في شكل الإستراتيجية الفرنسية في لبنان، تبرز معالمها من خلال:
– عدم زيارته الصرح البطريركي، لأول مرة في تاريخ العلاقة بين الطرفين. فهل يرتبط ذلك بتعارض مطالب بكركي مع السياسة الفرنسية؟ أو لأن المؤتمر الدولي، وفقاً للصيغة التي يطالب البطريرك بشارة الراعي، تعني سحب البساط من تحت الرئيس إيمانويل ماكرون؟ إشارة هنا إلى خبر إعلامي يتيم، مجهول المصدر، ورد منذ يومين عن مؤتمر محتمل للقيادات اللبنانية في باريس، بدعوة من الرئيس ماكرون. فهل هو تضارب أجندات؟ أم ثمة أسباباً أخرى مرتبطة بحسابات سياسية داخلية وإرضاءً لجهات معينة؟ ام هي ترجمة للخيار الفرنسي بالتخلّي عن الحصان المسيحي؟ أم هي علمانية عاصمة الأناقة التي لا ترتاح للتعامل مع المرجعيات الدينية؟
-الأمر الثاني مرتبط بتراجع “مزعوم” في اللحظة الاخيرة، على ذمّة أوساط فرنسية، كان سبق وسوّقت عن عزم لودريان، إعلان موقف داعم للجيش اللبناني ودوره، في ظل الأزمة الضاغطة التي يعاني منها، وعجز موازنته عن تأمين الحاجات الأساسية، واضطراره إلى طلب مساعدات غذائية ومالية نقدية، من دول العالم. فهل لذلك ارتباط بمسألة تعثر ترسيم الحدود أم لعدم إغضاب الأميركيين؟ علماً أن تلك المسألة أخذت جدلاً كبيراً ونقاشاً معمّقاً داخل أروقة الإيليزيه قبل أن تُحسم، حيث يتحدث البعض عن تحفظات لدى القيادة الفرنسية حول مجموعة نقاط، لم تتضح بعد، ستتكفل الأيام المقبلة بتظهيرها، بعد اكتمال المعطيات بشأنها.
-اللافت الأكبر والمفاجئ نجاحه في “اختراق” الحراك كمّاً ونوعاً من جهة، ومضمون النقاش من جهة ثانية، حيث بدا الوفد الفرنسي منفتحاً على مناقشة نقاط، كان سبق للرئيس ماكرون أن “قمع” بعض المشاركين إلى طاولة قصر الصنوبر لدى إثارتها.
واضح، بحسب الذين اجتمعوا بلودريان، أن الحكومة لم تعد شغل الأمّ الحنون الشاغل، وإن كانت إثارته للموضوع قد جاءت شكلاً مع الرسميين الذين التقاهم، ذلك أن تشكيلها، على ما يبدو، بات مرتبطاً بموضوع إنجاز الإنتخابات النيابية أكثر منه إقرار خطة اصلاحية والسير بها. وهنا يبدو جلياً، التباين لأشهر بين أفراد الفريق الرئاسي، حيث يبدو، أن خيار المخابرات الفرنسية الذي يميل لصالح الثورة قد حقّق تقدماً على ما عداه، ما تُرجم انفتاحاً على مجموعات الحراك التي حضرت إلى طاولة الوزير الفرنسي، فارضةً أجندتها، من موضوع الإنتخابات إلى موضوع سلاح “حزب الله” (أمسك الوزير العصا من النصف خلال مقاربة هذا الموضوع)، مروراً بقمع السلطة للمعارضين. نقاطٌ لم تكن باريس في وارد مناقشتها سابقاً. فهل هو انقلاب على الذات؟ أم هي أحد أبواب العقوبات؟ أم في الأمر ترهيب وترغيب للسلطة؟
في كل الأحوال، المطلوب من مجموعات الحراك، الحذر الشديد واليقظة من أي تسوية أو صفقة قد يعقدها الإيليزيه. ملاحظة تُذكر، أن مصدراً ديبلوماسياً في السفارة الفرنسية، كشف أمام مقربين عن أن الاجتماع بقوى الثورة قد جرى تحميل مضمونه أكثر مما يحتمل.
إذن، ثمن فشل المبادرة الفرنسية معلّق تسديد حسابه إلى موعد الإنتخابات النيابية. فإلى أن يحين هذا التاريخ، يُجمع الذين التقوا وزير الخارجية الفرنسية على أن باريس نفضت يدها من التعامل مع الطبقة الحاكمة والمتحكّمة في لبنان، ما يعني أن لا مبادرات بعد اليوم، ليقتصر التدخل الفرنسي على دعم الشعب اللبناني ومساعدته إجتماعياً ومعيشياً، وحماية المعارضين من السلطة وأزلامها،وهنا بيت قصيد المرحلة المقبلة ومفتاحها.
يللّي بيحضر السوق ببيع وبيشتري، يقول المثل، هذا في حال التاجر الذكي. ولكن أن تحضر و”تشتري ” بضاعة فاسدة فتلك كارثة… المهم اختيار الحصان الرابح… ولكن على ذمّة الشاطر حسن، بالرغم من العلاقة التاريخية التي تربط بين سبق الخيل ومقر إقامة السفير الفرنسي، المفصولين جغرافياً بحائط، فإن باريس أبعد ما تكون الأقدر على اختيار “الحصان” و”المضمر” و”الجوكي” لكسب السباق… هكذا أخبرنا الاجداد والآباء.