لبنان بين “منصة صواريخ” و”جمهورية” الكبتاغون!
تسقط المؤسسات اللبنانية واحدة تلو الأخرى، والخطر محدق بقوة بما هو محوري في قيام الدول وضمانة استمراريتها. القضاء الذي يعوّل عليه أهل البلد لاستعادة بعض من حقوقهم المهدورة كما الودائع المنهوبة إلى حماية الحريات، بات في عين العاصفة. الجيش العمود الفقري للدولة متروك، ويريدون إدخاله في بازاراتهم السياسية، فيما لن يتأخر الوقت الذي ستصبح معه مطابخه فارغة يستجدي المساعدات الغذائية، مع الأسئلة عن الجهوزية بضوء اختصار التدريبات وتراجع إمكانيات الصيانة. ولنتخيل للحظة أن بدعة «الثلث المعطل» في تركيب حكومات المحاصصة الطائفية، التي حالت دون تأليف الحريري حكومة إدارة أزمة، وهو المكلف بها منذ 22 أكتوبر (تشرين الأول) أي قبل 187 يوماً، تمدد هذا «الثلث المعطل» إلى القضاء والأمن.
مع اتساع الإفلاسات نتيجة المنهبة المنظمة والبطالة التي نجمت عنها، وانهيار الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، اتسع انتشار التسول كظاهرة عمت لبنان، كما ازدياد أعداد المواطنين الذين يقتاتون من القمامة، لأن نحو ثلث اللبنانيين في فقر مدقع، بعدما بات نحو 60 في المائة منهم تحت خط الفقر. هناك تحول كبير في دور لبنان الذي أعلن الإفلاس والتوقف عن سداد التزاماته، لتقابل فضيحة الرمان الملغوم بملايين أقراص الكبتاغون التي كشف أمرها في السعودية، بالترويج أن التهريب موجود في كل البلدان، وكأن ذلك بوليصة براءة من المسؤولية، ليتبين أنه في «العهد اللبناني القوي» بات لبنان بين «منصة صواريخ» تستهدف الأشقاء و«جمهورية» كبتاغون تنشر السموم. وهناك في موقع القرار الفعلي المتحكم بالبلد شيخ معمم (صادق النابلسي) المقرب من «حزب الله» يعلن جهاراً أن التهريب جزء من «العمل المقاوم» ووسيلة مثلى لكسر الحصار. وتكاد تكون وظيفة لبنان الملحق قسراً بمحور الممانعة، ساحة ومساحة جغرافية، يتم من خلالها الالتفاف على العقوبات من دون الأخذ بعين الاعتبار النتائج الكارثية المتأتية عن ذلك.
القرار السعودي بوقف استيراد المنتجات الزراعية من لبنان، الذي أمهل بيروت يومين قبل وضعه في التطبيق، أملاً في خطوات معالجة مقنعة، لم يجد له حتى كتابة هذا المقال آذاناً صاغية لدى المسؤولين اللبنانيين رغم ما أحدثه من قلق، جرّاء إقفال المنفذ الحقيقي للتصدير الذي لا بديل له، وهو يدر مداخيل جدية من الدولارات الطازجة، التي وإن كانت تغذي جزئياً الدورة الاقتصادية، فهي تحمي القطاع الزراعي من الانهيار وتضمن استمرارية عمل وحياة عشرات ألوف الأسر العاملة في هذا القطاع.
كل الموقف الرسمي من هذه الأزمة الخطيرة، كان دون المستوى وعند حدود نقطة الصفر ولا يعوّل بالتالي على أي نتائج عملانية جدية. كان هم المتربعين على كراسي الحكم تغطية ما وجوده بات علنياً ومفضوحاً، فكان التصويب الرسمي على ثغرات تقنية، وإعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال أنه تفاجأ، وصولاً إلى التلطي خلف القول إن التهريب غير محصور بمنطقة ويعالج بالتعاون. صحيح أن آفة التهريب موجودة في غير بلد، لكنه يتم بنسب جزئية من النجاح لأن جهود المكافحة جدية، وبالتالي لا يمكن تبريره بأن يغرس المسؤولون رؤوسهم في الرمال، والتغاضي عن الأساس، وهو وجود بؤر لمعامل إنتاج المخدرات في مربعات أمنية تابعة للدويلة، معروفة من الناس فكيف الجهات الأمنية. كما أنه من غير الجائز التغاضي عن مخاطر استمرار استباحة الحدود والموانئ أمام مافيا التهريب المدعومة والمحمية. أما تكرر الأحاديث من نوع الملاحقة الجدية والمتابعة للمهربين ومن وراءهم، وإبداء الحرص على مصلحة كل اللبنانيين كما مصالح الأشقاء، فكلام في الهواء لا يصرف، لأنه نسخة مكررة لما قيل بعد التفجير الهيولي الذي دمر المرفأ وبيروت في الرابع من أغسطس (آب)، والحصيلة الرسمية بعد 9 أشهر لا شيء، رغم معطيات لا يمكن دحضها عن الجهات التي استقدمت شحنة الموت وارتباطها مع فريق الممانعة المتهم بالتزوير والتغطية.
مأساة البلد أن الفراغ في الموقع الرسمي للقرار هو السائد، والتفلت وغياب المحاسبة هو القانون، ومن يحمل صفة رسمية لا يتحمل أي مسؤولية، اللهم إلا من بعض الحكي في المناسبات، لأن المسؤولية الفعلية بيد سلطة أخرى، هي التي تقبض على القرار الفعلي والموقف. إنه «حزب الله» الذي راح يقضم السلطة منذ حرب تموز وأحكم قبضته بعد التسوية الرئاسية في عام 2016، ولم يظهر في أي مناسبة أن هموم الناس واحدة من أولوياته، لذا يستثمر في رئاسة جمهورية شاخت شعبياً منذ زمن بعيد، ولا ترى غضاضة في الالتصاق بقرار الدويلة طمعاً بحماية المستقبل السياسي للنائب باسيل «الظاهرة» غير المقبولة داخلياً وخارجياً الذي فرضت عليه العقوبات الأميركية وفق قانون «ماغنيتسكي».
كل التمادي في الإمساك بخناق الوطن، وتجويف المؤسسات الدستورية والأجهزة الحكومية ووضع الأجهزة الأمنية في حال تضاد وصراع، وسط كل الانهيارات التي ضربت حياة اللبنانيين، والعزلة التي يعيشها لبنان بعد تغاضي منظومة الحكم عن تحويله «منصة صواريخ» تديرها طهران (…) والآن منصة تصنيع وتمرير وتهريب السموم إلى المنطقة والعالم، لم تبرز أي مؤشرات أن هناك في الطبقة السياسية من يعطي مواجهة هذا التحدي الأولوية، بل جُلَّ ما يطرحه البعض هو الذهاب إلى انتخابات نيابية، ورهانه أنه قد يحصل على عدد أكبر من النواب، فيما أي انتخابات وفق القانون النافذ المتصادم مع الدستور، وفي ظلّ الحكومة الواجهة المستقيلة سيمنح «حزب الله» الفرصة لتجديد شرعيته لأنه مرجح أن يفوز وفريقه بالأكثرية.
الرهان الحقيقي أن تبلور ثورة «17 تشرين» شيئاً ما، يفتح الطريق أمام بلورة ميزان قوى حقيقي، يعكس الممكن من حجم وزخم الإرادة الشعبية، وهذا المنحى مسار وليس فقط مجرد قرار. وكل المحاولات التي حملت تسميات لقاء إرادات، لإقامة جبهات سياسية تتعثر لأكثر من سبب. بعض القوى التقليدية بحاجة لـ«تعاون» مع «مجموعات» عُرفت ما بعد «17 تشرين»، ما قد يمنحها مصداقية معينة. كذلك بعض الجهات الاقتصادية التي تراجع دورها وتطمح إلى دور سياسي، يحمي توجهات اقتصادية مرتبطة بتحولات في الإقليم، تحاول بدورها إقامة هذا النوع من «التعاون»، لكنه يتعثر أيضاً. السبب أن من يعتبرون أنهم بين الأكثر قرباً من نبض الشارع، تنبهوا إلى أنه بدون حيثية منظمة يمثلونها، سيكونون عرضة للاستخدام ليس أكثر، وسيخرجون من «مولد» هذه الجبهات بلا حمص.
إنها اللحظة الضرورية لبناء عمل سياسي حقيقي منظم، يعكس تلاوين البلد ونسيجه، يسد بعض الفراغ الناجم عن وقوع لبنان تحت وطأة احتلالات متعاقبة. وربما يكون الوضع السياسي المنظم المنتشر أفقياً، ويعتمد الحد الأقصى من التشاور هو الأكثر فاعلية لأنه يحترم دور الفرد ويمنع التفرد. وإذا ما تبلور مثل هذا المنحى، تتأمن رافعة لجبهات سياسية معارضة، تُظهِّر البديل عن منظومة الاستبداد التي تحتمي ببندقية لا شرعية. إذ ذاك، يمكن أن إيجاد صيغ التعاون مع آخرين، ولو على القطعة، بما يخدم مخطط استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح والفساد والطائفية، ويمنع توظيف قوى حية في تسويات شكلية اعتادها لبنان.