هل المطلوب دم؟
التلاعب بسعر صرف الدولار مستمرّ، وقد يؤسّس إلى مرحلة جديدة عنوانها “اللا إستقرار”. بالأمس، سجّل الدولار إنخفاضاً محدوداً بلغ 600 ليرة عن ما بدا عليه في مستهل عطلة الأسبوع المنصرم حين لامس سقف 11,000 ليرة. مع ذلك هذا لا يكفي، ما زال التحليق فوق مستوياته المعقولة، وما زال يحمل أسباب التسخين نفسها، والتسخين في مقبل الأيام قد لا يصبح عنواناً حين يتفاعل ويتطوّر مع دخول أكثر من عامل سلبي، إقتصادي وسياسي.
تكاد السيطرة تخرج من بين أيدي الجميع. خلال عطلة الأسبوع المنصرم أختبر المعنيون طرازاً جديداً من “الفوضى الأهلية”، والفوضى بمعناها اللبناني الضيّق مدمّرة وحمالة أوجه، سيما حين تبدأ بإنتاج “الكسر والخلع”. حضر النشل والسلب والترهيب على أكتاف “ثورة الجيّاع”، ويمكن الرجوع إلى تقارير الأجهزة لإحصاء الأضرار، وبعد مشهدية النِزال على كيس حليب جاء الدور على البنزين، من خلفية “السطو” على محطة وقود على تخوم الضاحية، أو سيارة لمواطن خائف ضلّ طريقه في الناعمة!
والسطو تحت شعار “القلّة”، وفي ظل القوة المستمدة من الجوع والقهر، يولّد النقار، وقد يتوّج “الكسر والخلع” شعاراً للمرحلة، فيسقط “التابو” الذي يحيط بمؤسسات وممتلكات عامة حيوية قد تصبح قدسيتها وحرمة المسّ بها من الماضي حين يطرق الجوع الأبواب، مؤسسات قد تصبح في مقبل الأيام أهدافاً شرعية لجموع الجائعين الزاحفة، سيّما حين يمضي الساسة في اتخاذ قرارات “رفع الدعم” المقنّعة التي قد تجعل من المعاشات مجرّد أوراق وهمية لا قيمة لها، قِس على النحو ذاته ، مؤسسات بيع المواد الغذائية التي ستصبح بدورها عرضةً لـ”غزو الجائعين” عند سقوط المحرّمات، إذ في بلد يستحوذ السلاح على القسم الأكبر من اهتمامات شعبه، يمكن حدوث ما لا يُمكن توقّعه.
من هنا، يرتفع منسوب الأمن في الشارع، والأجهزة الرسمية ما زالت تعمل على محاولة احتواء التحرّكات وعدم خلق صدام في الشارع، بدليل وقوفها على مسافة من نقاط الإشتباك الحسّاسة. مع ذلك، ثمة من يخشى من محاولة انفجار الأمور فجأة وانتقالها إلى مستويات أعنف، خصوصاً حين يتّضح أن ثمة بيئات يُراد لها أن تنقلب على نفسها أو الخوض في مسلسل التغيير المنشود. باختصار، الخوف من مشهدية دم قد يُراق في لحظة غضب تحتلّ عقول الكثيرين، لا يخفي البعض أن ثمة من يراه مطلوباً في سبيل تحقيق انتقالة نوعية في الأزمة، أو محاولة الخروج منها على تسوية.
من الضاحية الجنوبية ليل السبت، أطلّ “بوم الخراب”. “حزب الله” الذي تركَ الناس “تُنفّس” حين لامس الدولار سقف الـ 11,000 ليرة من دون أن يتدخل، على اعتبار أن في المنطقة من الجائعين والمتضرّرين “ما فَتَح ورَزَق”، صُدم حين جرى التعدّي على الممتلكات العامة والخاصة في أكثر من منطقة، حين اتّضحَ لديه، أن هناك من يريد ممارسة التخريب المقصود في الضاحية للقول لاحقاً أن المنطقة تنتفض على الحزب، أو أنها خارج السيطرة، وخير دليل على ذلك ما شهده دوار الكفاءات من تكسير وتحطيم.
وبعيداً عن الدخول في أسماء المخرّبين في الكفاءات، وبعدما اتّضحَ أن قسماً كبيراً منهم، هم من أبناء العشائر المسيطرة بالأمر الواقع، عمل “حزب الله” على محاولة ضبط الشارع بالتعاون مع الأجهزة الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي، وقد اتضحت خطورة المشهد حين بدأت تتوارد دعوات عبر وسائل التواصل للخروج بوجه من خرج إلى الشارع، وهو ما أنذر بالوصول إلى مشهد خطير قد يجعل الفقراء يقفون في وجه بعضهم بعضاً.
وما زاد من طينة المشهد بلّة، عودة مسلسل ترويج الأفلام القديمة من جديد لغاية الإستخدام غير البريء. فحين كانت تندفع الجموع لتشعل الشوارع إعتراضاً على خروج الدولار من عقاله، خرجت من مكان ما أشرطة وأفلام ودُسّت في عمق المشهد المُلتهب، من بينها مشهديات الدرّاجات النارية التي حاصرت قصر بعبدا، ومارست الكرّ والفر مع الجهات العسكرية. وحين يُقال أن تلك “المواكب” قد خرجت من الضاحية، معنى ذلك أن “المستوى الشعبي الشيعي” قد خرج يُحاصر الرئيس الماروني!
بمعنى آخر، ثمة من كان يُراهن على محاولة إحداث “عطب” داخل “بنية الضاحية” ومحاولة إقحام الشيعة في وجه رئاسة الجمهورية، مع ما يستبطن ذلك من محاولة إظهار الحزب كفاقد للسيطرة ضمن منطقته أو على مناصريه المفترضين، أو أبناء بيئته، أو أنه “يتآمر” على ميشال عون ـ الحليف أو يتغاضى عن التعرّض إليه، وتصويره أنه لم يعد “حالة مقبولة شيعياً” وهذا له انعكاسات عميقة في السياسة، ويخفي أهدافاً مرجّوة من وراء المراهنة على اختلاق عوامل مشجّعة يمكن استثمارها لاحقاً في مجالات أوسع. وهذا كله يمكن إضافته إلى محاولة اختلاق أزمة مع بكركي ذات امتدادات مارونية ـ شيعية تحت عنوان التباين حول الحياد والتدويل، وهو ما يعمل “حزب الله” الآن على محاولة لملمة ذيوله ووضعه في إطاره منعاً للإستثمار العدائي.
وإذ كان الحزب قد نجا من محاولة استدراج في الشارع، لا يمكن الجزم أن المحاولات ستتوقف في ظل وجود قرار باستئناف التلاعب بسعر صرف الدولار الذي يعدّ محفّزاً لاستمرار الغضب وتطوره، ومن خلاله التلاعب بأعصاب “الجبهة الشيعية”، خاصة مع وجود من يروّج لعوامل الإنقسام والتفرقة بين من يقبض بالدولار ومن يقبض بالليرة، محاولاً إظهار الفوارق الإجتماعية وتنمية الشعور بالغبن والتمييز.
ومع ظهور مستفيد وأكثر من رواج عملة “اللا-أمن” الطاغية، لا يمكن إلا تخيّل وجود مراهنين على محاولة قلب الأمور باستخدام الغضب في الشارع، في عودة على مراهنة 17 تشرين. وهنا، يظهر أن بعض الأحزاب “لم تتعلم الدرس”، وما زالت تتّخذ من الحراك الجديد وحالة الغضب المستشرية عنواناً لاستكمال مشوار الدفع صوب التدويل وإظهار لبنان كدولة فاشلة، تحتاج إلى وصاية ومساعدة. وهنا، لا مجال لتغييب مشاركاتهم “المهمة” في تظهير هذه الصورة، سواء في الشارع أو عبر وسائل الإعلام من خلال الفعل والتصريح، وبعض المحازبين عند نقاط وشوارع محدّدة يستفيض في تكريس منطق الخروج عند الدولة، وإظهارها بصورة الفاشلة و تسويق الدعوة إلى “التدويل” كمخرج.